تلبّدي يا مُقَل... تبدَّدي يا ظنون.
تفنّني يا حناجر... توسَّمي يا خناجر.
تهيّأي يا كروب، حلّقي يا أحزان.
أمّا أنتَ يا زائري...
إليكَ بيَ وطناً مهدورَ الجهاتِ، مسفوكَ الحروفِ، منسيَّ الأنينِ، خَاتَماً يطوّقُ أصابعَ بزوغكَ المثخنِ بيّ، وخِتماً تطبعهُ على خطاك التي لم تخطُها نحوي بعد.
إليكَ عنّي، بمساميركَ وصلبانكَ، فجسدي المنخورُ بالقصائدِ غير المكتوبة، أنهكهُ الترحالُ صلباً.
أوصاني البحرُ ألاَّ أبخلَ على أعماقه بأنيني.
أوصتني الرّيحُ بمواصلة تدوينِ ذاكرتها، كلّما مالَ قدُّ غزالتي على ضريحي.
أوصاني المطرُ بالمزيدِ منِ التوهانِ في المجاز، كلّما أقبلتُ على الضجرِ بِنَهمِ السؤال.
لم يوصِني البرقُ بالمرورِ في محافلهِ، أثناءَ مروري بموعودي...
فبماذا توصيني يا زائري؟!.
***
يا زائري...
قبل ألف عامٍ من موتي، نصبتُ لك الموالد، ورتَّبتُ المواعيدَ، وأودعتكَ رحمَ غزالتي، وودّعتكَ بمثلِ ما استقبلتُكَ من ربيعٍ وثوراتٍ وأسئلة.
مضيتُ الى حيثُ لم أكن أنوي المضيّ إليه، حاملاً قصيدةً لا زلت اكتبها، وانتهتِ الغيومُ من قراءتها قبلي.
مضيتُ إلى حيث كانتِ الغربةُ تريدُ أن أمضي، معبّأً بأوجاعِ الأفكارِ التي سمّمتني ذات غفوة.
الدروبُ، خيطُ سبحتي.
الترابُ، حُجُبي وأسمالي وأرديتي.
آلامي، هي مشاجبي ومتوني.
يضنيني غيابي عنكَ، ويؤلمني حضوري بكَ.
تُدركني المدنُ، ولا أُدركُ طفولتي...
لا أًدركُ أنني الماضي الى حتفهِ، حينَ أضارعُ خيالاتي.
دنّستي الأرضُ، وخذلتني السّماء، وما من صالحٍ يذري خيباتي، وينهي أفولي.
***
يا زائري...
إلاّ قصائدي، وحدها لم تخوّنّي!.
إلاّ قصائدي، وحدها لم تبارحني.
أولئكَ الذين صادروني، أخذوا معهم الوطنَ وانتحروا.
أولئك الذين هدروني، هدروا ظلالهم وانتحبوا.
أولئك المنتحبون، يبكون أنفسهم التي أقفلتهم على سمومهم، حين يصطحبون مجازرهم ومناجل كلامهم وميدياته!.
يقبلون على الأنامِ، إقبالَ الزوابع على الحقول، ويغادرون الأماكن، ولا تغادرهم الآبار العجفاء!.
***
يا زائري...
اودعك رحم غزالتي، وإذ بك تناغي آلامي.
انتظركَ انتظارَ الوطن لي، وتنتظرني انتظارَ الغربة لي.
ألا يا طفلي... أتيتني بدفاتركَ وأقلامك، بعد ألف عامٍ من مولدي، قبل أن آتيكَ بوجهي، بشوشاً بمخضّلاً بالنعناع ووبر الدرّاق.
ها انت الآن، تودُّ زيارتي، بعد ألف عامٍ من موتي، لتقصّ عليّ؛ ماذا نالت منكَ الدهور، وماذا نلت من الخيبات، في غيابي؟.
انتظركَ، بفارغ اللوعةِ، وفارغِ الدهشةِ، وعظيمِ الألمِ، وعميقِ التحليق!.
تعالَ على مهلِ قصيدتي، على مهلِ الحريّة، ولو بعد ألف عامِ من مقتلي.
ها أنا ذا، أناديكَ من خلفِ أخمصٍ مبتورٍ لزمنٍ منكورٍ، اغتالني حين هممتُ باستردادِ نفسي من جُعبِ البرابرة.
ها أنا ذا، أُجاريكَ بما أجاري الأنهارَ بقصيدِ الخزمى، تجويداً عليلَ اللفظِ، فيتلعثمُ العنبُ على شفاهِ لهيبِ الصيف، إذ يتهجّى ظلالي.
تعال... بكلِّ اختلافات الهوى وارباكه.
لا تأتِ خاوي البراري من شائكِ السؤال...
لا تأتِ راضياً مرضياً، قنوعاً بالركونِ.
تعالَ، مكتظاً بقواميس الوجد، ولا تأتِ معوصب العقل، مثلومَ الخُطى.
اسرد عليّ كلام قَتَلَتي، حين كانوا يمسحون سكاكينهم من دمي بصفحاتِ كتبي؟.
أتدري يا زائري، كم أنا مشتاقٌ لقتلتي، أولئك الذين تقاسمنا الوهم، والتحفنا الخرافات أثناء تألهينا السلاح!؟.
اشتقت لملامحهم القديمة، حين كنّا مترعين بالبراءةِ ودغدغة الخيالات!.
إن صادفتهم في الطريق، ذات ثورة، قل لهم: أنا ابن "الخائن" الذي قتلتموه: سلاماً عليكم، عليكم سلام!.